الاثنين، 14 فبراير 2011

أطياف وذكريات من أُقحوانة الشّمال





د.محمود الشلبي
لإربدَ في البالِ إيقاعُها المُشْرئبُّ إلى سَلْسلبيلِ الغناءِ، الأثير.

لها هالةٌ تستديرُ.. ووجهٌ يطيرُ، وقامتُها مثلُ نهر الصَّلاةِ إلى فَجْرِها المُسْتنير..
عروسٌ. بخدر المسافةِ، أغنيةٌ نَثَرتْ لَحْنَها.. مَوْجةً مِن عبيرْ.. لإربدَ طَقْسٌ بهيجٌ من الطَّلِّ.. والدَّلِّ،

والخُضْرةِ المُشْتهاةِ، لدى الظِّلِّ عند الهجيرْ.
إذا انبلجَ الصّبحُ من ليلِ هَدْأتها، أطْلَقَتْ للصّبايا الجميلاتِ ترويدةً كي تفرَّ من النَّوْمِ مثلَ طِباءِ الغدير.
وإن سَكِرَتْ مِنْ أَصيلِ الشّمالِ الشَّفيفِ، ورشَّ المساءُ الأنيقُ رُواءَ العذوبةِ في دَرْبها.. دَخَلَتْ لَيْلَها باكراً في النُّعاسِ اللذيذِ.. وقالَتْ لعُشَّاقها: تُصبحونَ على حُلُمٍ أَخْضَرِ القلبِ يُسْقى بماءٍ غِيرْ..
على صَدْرها الواسِعِ المُنْبَسطِ تَسْتَريحُ المنازلُ، أعتابُها شرفاتُ القلوب، وأَسْطُحها مطارٌ لرقص المَطر.. لِسِرْبِ النجومِ الذي غادَرَ نَهْرَ المجرَّةِ مستأنساً بالحياة على وَجْهِ أربد.. ها هي حقولُ الحِنطة وموارس العدس والشعير.. تسافر في ضمير المكان إلى أرابيلا الماثلة في وجدان الكائن. حالةً متجددة من الذكريات والتواريخ المستوطنة بحضورها في كتاب الزمن .. وفي ذاكرة التاريخ .. ماثلة في الوجدان قصيدةً حالمة.
إربد عروسٌ تَجمّلُها الجهاتُ لتلتقي جميعاً في الشمال، حاملةً سِلال الثمر: عنباً وتيناً وخوخاً وصبراً.. قاطفةً غِلال الزيتون من أطراف ردائها الأخضر الممتد شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً.. وفي بيوتها القديمة ينطق التراث الإربديّ بسيرة المواسم. وفرح الأهل، وازدهار الأغاني في الساحات والمداخل والممرات والشوارع.. يتوافد الناس إليها: فلاحين، وعمالاً، وزواراً ورياحين.. ليتجولوا بين أحضانها.. إيقاعُهم سَفَر الخواطر إلى مدينة الشمال.. حيث الحوانيت والدكاكين مشرعةَ الأبواب.. ليدخلَ إلى قلبها الحنون كلُّ من جاء إليها.. في مواسم الأعراس.. ليبتاعوا ذهب العروس و جهازها في تناغم بهي مع الأشياء وقد حطّت على أكتافهم وفي طرقاتهم طيور الفرح.. وعنادل الأيام مبشرةَ بمستقبلٍ أجمل.
إربد تنهضُ كُلّ صَبَاحٍ على صَوْتِ شاعرها عرار وقد وقَفَ على تَلّها ينشدُ بصوتٍ خالطه الفَرَحُ والحُزْن، وتناسلت من البعيد صبايا الحي، حيث طوابين الخبز، ودخان النار الحائر في فضائها.. فلاحت المدينة، لوحة بلا إطار.. ليدخل الشاعر في خلاياها المعشبة وقد أوقد نار الشعر.. محروساً بالصهيل والأقحوان وصرخته الإربدية:
قالوا: تدمشق، قولوا: ما يزال على
عِلاّته إربديَّ اللون حوراني
يا أردنيات إنْ أوديتُ مغترباً
فانسجنها بأبي أنتنُّ أكفاني
وقُلْنَ للصحب: واروا بعضَ أعظمه
في تَلِّ إربدَ أو في سَفْح شيحانِ .
عباءتها الممتدة إلى حدود الأفق يطرزها الأقحوان بأجنحته البيضاء وقلبه الموشح بصفرةٍ ناطقة.. كصفرة وجوه العشاق وقت اللقاءات.. وقد اضطرب القلب وغَنَّى للحبيبة موّاله المدّخر للصّبابة والحُبِّ.
هي الآن سيّدةُ السهل، وحارسةُ الشمس، وسفيرة الندى إلى ثغر الزهور، ونشوة الأعشاب، تتكاثر بيوتها كمفردات على شفاه الأطفال. تنمو.. وتزدهر بجامعاتها ومعاهدها ومدارسها ومنشآتها ومؤسساتها وشوارعها وذكرياتها الباقية كحبلٍ موصول في ضمير الأجيال.
وما بين معترك الأحداق والمهج تَسْكُن.. بيدها شعلة وفي قلبها نداء.. وتحت أقدامها جنةٌ يستبينها الزائر.. فيغزل لها قميصاً من رياح الشمال.. وسنابل حوران..
لا ألومُ الفؤاد على حُبِّها المنبجس من نبعٍ لا ينضب.. بل أدعو الكلمات إلى مرايا الأرض وشرفاتها البعيدة، في بوحٍ خاصٍ:
يا أقحوانة مَرْجٍ زّينَتْ وطناً،
قد صِرتِ بالأمسِ اسماً من أساميها
تلك الشوارعُ ما زالَتْ تُذَكِّرُنا
بوحدةِ الحال، والذكّرى تؤسّيها
إلى عرارٍ إلى الزينات من بلدي
حنينُ إربدَ. والأشواق تُذْكيها
خدّاك يا بنتُ من دحنون ديرتها
من قمحِ حوران
من ماءٍ يُروَّيها
يا صاحبي.. فيكَ من طَيف الطيوف رؤىً
وفيكَ من إربد الأولى، خَوافيها
أَشْعِلْ قوافيك،
فالماضي وحاضرُهُ
تاريخُها المنتمي فخراً لبانيها
إنْ شِئتَ أنْ تقطفَ المعنى وتودِعَهُ
في سَلَّةٍ الشِّعْرِ،
فاجعل إربدي فيها.